فصل: تفسير الآية رقم (9):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.سورة الزخرف:

سورة الزخرف مكية بإجماع. وقال مقاتل: إلا قوله {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا} [الزخرف: 45]. وهي تسع وثمانون آية.

.تفسير الآيات (1- 3):

{حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)}
قوله تعالى: {حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ}. تقدم الكلام فيه.
وقيل: {حم} قسم. {وَالْكِتابِ الْمُبِينِ} قسم ثان، ولله أن يقسم بما شاء. والجواب {إِنَّا جَعَلْناهُ}.
وقال ابن الأنباري: من جعل جواب {وَالْكِتابِ} {حم}- كما تقول نزل والله وجب والله- وقف على {الْكِتابِ الْمُبِينِ}. ومن جعل جواب القسم {إِنَّا جَعَلْناهُ} لم يقف على {الْكِتابِ الْمُبِينِ}. ومعنى {جَعَلْناهُ} أي سميناه ووصفناه، ولذلك تعدى إلى مفعولين، كقوله تعالى: {ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103].
وقال السدي: أي أنزلناه قرآنا. مجاهد: قلناه. الزجاج وسفيان الثوري: بيناه. {عَرَبِيًّا} أي أنزلناه بلسان العرب، لان كل نبي أنزل كتابه بلسان قومه، قاله سفيان الثوري وغيره.
وقال مقاتل: لان لسان أهل السماء عربي.
وقيل: المراد بالكتاب جميع الكتب المنزلة على الأنبياء، لان الكتاب اسم جنس فكأنه أقسم بجميع ما أنزل من الكتب أنه جعل القرآن عربيا. والكناية في قوله: {جَعَلْناهُ} ترجع إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة، كقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1]. {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي تفهمون أحكامه ومعانيه. فعلى هذا القول يكون خاصا للعرب دون العجم، قاله ابن عيسى.
وقال ابن زيد: المعنى لعلكم تتفكرون، فعلى هذا يكون خطابا عاما للعرب والعجم. ونعت الكتاب بالمبين لان الله بين فيه أحكامه وفرائضه، على ما تقدم في غير موضع.

.تفسير الآية رقم (4):

{وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)}
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ} يعني القرآن في اللوح المحفوظ {لَدَيْنا} عندنا {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} أي رفيع محكم لا يوجد فيه اختلاف ولا تناقض، قال الله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78- 77] وقال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22- 21].
وقال ابن جريج: المراد بقوله تعالى: {وَإِنَّهُ} أي أعمال الخلق من إيمان وكفر وطاعة ومعصية. {لَعَلِيٌّ} أي رفيع عن أن ينال فيبدل {حَكِيمٌ} أي محفوظ من نقص أو تغيير.
وقال ابن عباس: أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما يريد أن يخلق، فالكتاب عنده، ثم قرأ {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}. وكسر الهمزة من {أُمِّ الْكِتابِ} حمزة والكسائي. وضم الباقون، وقد تقدم.

.تفسير الآية رقم (5):

{أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5)}
قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} يعني: القرآن، عن الضحاك وغيره.
وقيل: المراد بالذكر العذاب، أي أفنضرب عنكم العذاب ولا نعاقبكم على إسرافكم وكفركم، قاله مجاهد وأبو صالح والسدي، ورواه العوفي عن ابن عباس.
وقال ابن عباس: المعنى أفحسبتم أن نصفح عنكم العذاب ولما تفعلوا ما أمرتم به. وعنه أيضا أن المعنى أتكذبون بالقرآن ولا تعاقبون.
وقال السدي أيضا: المعنى أفنترككم سدى فلا نأمركم ولا ننهاكم.
وقال قتادة: المعنى أفنهلككم ولا نأمركم ولا ننهاكم. وعنه أيضا: أفنمسك عن إنزال القرآن من قبل أنكم لا تؤمنون به فلا ننزله عليكم. وقاله ابن زيد. قال قتادة: والله لو كان هذا القرآن رفع حين رددته أوائل هذه الامة لهلكوا، ولكن الله ردده وكرره عليهم برحمته.
وقال الكسائي: أفنطوي عنكم الذكر طيا فلا توعظون ولا تؤمرون.
وقيل: الذكر التذكر، فكأنه قال أنترك تذكيركم لان كنتم قوما مسرفين، في قراءة من فتح. ومن كسر جعلها للشرط وما قبلها جوابا لها، لأنها لم تعمل في اللفظ. ونظيره: {وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] وقيل: الجواب محذوف دل عليه ما تقدم، كما تقول: أنت ظالم إن فعلت. ومعنى الكسر عند الزجاج الحال، لان في الكلام معنى التقرير والتوبيخ. ومعنى {صَفْحاً} إعراضا، يقال: صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه. وقد ضربت عنه صفحا إذا أعرضت عنه وتركته. والأصل فيه صفحة العنق، يقال: أعرضت عنه أي وليته صفحة عنقي. قال الشاعر:
صفوحا فما تلقاك إلا بخيلة ** فمن مل منها ذلك الوصل ملت

وانتصب {صَفْحاً} على المصدر لان معنى {أَفَنَضْرِبُ} أفنصفح.
وقيل: التقدير أفنضرب عنكم الذكر صافحين، كما يقال: جاء فلان مشيا. ومعنى {مُسْرِفِينَ} مشركين. واختار أبو عبيدة الفتح في {أَنْ} وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم وابن عامر، قال: لان الله تعالى عاتبهم على ما كان منهم، وعلمه قبل ذلك من فعلهم.

.تفسير الآيات (6- 8):

{وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)}
قوله تعالى: {وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ} {كم} هنا خبرية والمراد بها التكثير، والمعنى ما أكثر ما أرسلنا من الأنبياء. كما قال: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الدخان: 25] أي ما أكثر ما تركوا. {وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ} أي لم يكن يأتيهم نبي {إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ} كاستهزاء قومك بك. يعزي نبيه محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويسليه. {فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً} أي قوما أشد منهم قوة. والكناية في {مِنْهُمْ} ترجع إلى المشركين المخاطبين بقوله: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} فكنى عنهم بعد أن خاطبهم. و{أَشَدَّ} نصب على الحال. وقيل هو مفعول، أي فقد أهلكنا أقوى من هؤلاء المشركين في أبدانهم وأتباعهم. {وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} أي عقوبتهم، عن قتادة.
وقيل: صفة الأولين، فخبرهم بأنهم أهلكوا على كفرهم، حكاه النقاش والمهدوي. والمثل: الوصف والخبر.

.تفسير الآية رقم (9):

{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)}
قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} يعني المشركين. {مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} فأقروا له بالخلق والإيجاد، ثم عبدوا معه غيره جهلا منهم. وقد مضى في غير موضع.

.تفسير الآية رقم (10):

{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)}
قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً} وصف نفسه سبحانه بكمال القدرة. وهذا ابتداء إخبار منه عن نفسه، ولو كان هذا إخبارا عن قول الكفار لقال الذي جعل لنا الأرض. {مِهاداً} فراشا وبساطا. وقد تقدم.. وقرأ الكوفيون {مَهْداً} {جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا} أي معايش. وقيل طرقا، لتسلكوا منها إلى حيث أردتم. {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} فتستدلون بمقدوراته على قدرته. وقيل {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} في أسفاركم، قاله ابن عيسى.
وقيل: لعلكم تعرفون نعمة الله عليكم، قاله سعيد بن جبير.
وقيل: تهتدون إلى معايشكم.

.تفسير الآية رقم (11):

{وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11)}
قوله تعالى: {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ} قال ابن عباس: أي لا كما أنزل على قوم نوح بغير قدر حتى أغرقهم، بل هو بقدر لا طوفان مغرق ولا قاصر عن الحاجة، حتى يكون معاشا لكم ولأنعامكم. {فَأَنْشَرْنا} أي أحيينا. {بِهِ} أي بالماء. {بَلْدَةً مَيْتاً} أي مقفرة من النبات. {كَذلِكَ تُخْرَجُونَ} أي من قبوركم، لان من قدر على هذا قدر على ذلك. وقد مضى في الأعراف مجودا. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر {يخرجون} بفتح الياء وضم الراء. الباقون على الفعل المجهول.

.تفسير الآيات (12- 14):

{وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأنعام ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ} أي والله الذي خلق الأزواج. قال سعيد بن جبير: أي الأصناف كلها.
وقال الحسن: الشتاء والصيف والليل والنهار والسموات والأرض والشمس والقمر والجنة والنار.
وقيل: أزواج الحيوان من ذكر وأنثى، قاله ابن عيسى.
وقيل: أراد أزواج النبات، كما قال تعالى: {وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7] و{مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [لقمان: 10]. وقيل ما يتقلب فيه الإنسان من خير وشر، وإيمان وكفر، ونفع وضر، وفقر وغنى، وصحة وسقم. قلت: وهذا القول يعم الأقوال كلها ويجمعها بعمومه. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ} السفن {والأنعام} الإبل {ما تَرْكَبُونَ} في البر والبحر. {لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ} ذكر الكناية لأنه رده إلى ما في قوله: {ما تَرْكَبُونَ}، قاله أبو عبيد.
وقال الفراء: أضاف الظهور إلى واحد لان المراد به الجنس، فصار الواحد في معنى الجمع بمنزلة الجيش والجند، فلذلك ذكر، وجمع الظهور، أي على ظهور هذا الجنس.
الثانية: قال سعيد بن جبير: الأنعام هنا الإبل والبقر.
وقال أبو معاذ: الإبل وحدها، وهو الصحيح لقوله عليه السلام: «بينما رجل راكب بقرة إذ قالت له لم أخلق لهذا إنما خلقت للحرث» فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «آمنت بذلك أنا وأبو بكر وعمر». وما هما في القوم. وقد مضى هذا في أول سورة النحل مستوفى والحمد لله.
الثالثة: قوله تعالى: {لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ} يعني به الإبل خاصة بدليل ما ذكرنا. ولان الفلك إنما تركب بطونها، ولكنه ذكرهما جميعا في أول الآية وعطف أخرها على أحدهما. ويحتمل أن يجعل ظاهرهما باطنهما، لان الماء غمره وستره وباطنهما ظاهرا، لأنه انكشف للظاهرين وظهر للمبصرين.
الرابعة: قوله تعالى: {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} أي ركبتم عليه وذكر النعمة هو الحمد لله على تسخير ذلك لنا في البر والبحر. {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا} أي ذلل لنا هذا المركب.
وفي قراءة علي بن أبي طالب {سبحان من سخر لنا هذا}. {وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي مطيقين، في قول ابن عباس والكلبي.
وقال الأخفش وأبو عبيدة: {مُقْرِنِينَ} ضابطين.
وقيل: مماثلين في الأيد والقوة، من قولهم: هو قرن فلان إذا كان مثله في القوة. ويقال: فلان مقرن لفلان أي ضابط له. وأقرنت كذا أي أطقته. وأقرن له أي أطاقه وقوى عليه، كأنه صار له قرنا. قال الله تعالى: {وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي مطيقين. وأنشد قطرب قول عمرو بن معد يكرب:
لقد علم القبائل ما عقيل ** لنا في النائبات بمقرنينا

وقال آخر:
ركبتم صعبتي أشرا وحيفا ** ولستم للصعاب بمقرنينا

والمقرن أيضا: الذي غلبته ضيعته، يكون له إبل أو غنم ولا معين له عليها، أو يكون يسقي إبله ولا ذائد له يذودها. قال ابن السكيت: وفي أصله قولان: أحدهما- أنه مأخوذ من الاقران، يقال: أقرن يقرن إقرانا إذا أطاق. وأقرنت كذا إذا أطقته وحكمته، كأنه جعله في قرن- وهو الحبل- فأوثقه به وشده. والثاني- أنه مأخوذ من المقارنة وهو أن يقرن بعضها ببعض في السير، يقال: قرنت كذا بكذا إذا ربطته به وجعلته قرينه.
الخامسة: علمنا الله سبحانه ما نقول إذا ركبنا الدواب، وعرفنا في آية أخرى على لسان نوح عليه السلام ما نقول إذا ركبنا السفن، وهي قوله تعالى: {وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41] فكم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحمت أو طاح من ظهرها فهلك. وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم فغرقوا. فلما كان الركوب مباشرة أمر محظور واتصالا بأسباب من أسباب التلف أمر ألا ينسى عند اتصاله به يومه، وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى الله عز وجل غير منفلت من قضائه. ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعدا للقاء الله بإصلاحه من نفسه. والحذر من أن يكون وركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله وهو غافل عنه. حكى سليمان بن يسار أن قوما كانوا في سفر فكانوا إذا ركبوا قالوا: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} وكان فيهم رجل على ناقة له رازم- وهي التي لا تتحرك هزالا- فقال: أما أنا فإني لهذه لمقرن، قال: فقمصت به فدقت عنقه. وروي أن أعرابيا ركب قعودا له وقال إني لمقرن له فركضت به القعود حتى صرعته فاندقت عنقه. ذكر الأول الماوردي والثاني ابن العربي. قال: وما ينبغي لعبد أن يدع قول هذا وليس بواجب ذكره باللسان، فيقول متى ركب وخاصة في السفر إذا تذكر: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ} اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل والمال، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، والجور بعد الكور، وسوء المنظر في الأهل والمال، يعني بـ الجور بعد الكور تشتت أمر الرجل بعد اجتماعه.
وقال عمرو بن دينار: ركبت مع أبي جعفر إلى أرض له نحو حائط يقال لها مدركة، فركب على جمل صعب فقلت له: أبا جعفر! أما تخاف أن يصرعك؟ فقال إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «على سنام كل بعير شيطان إذا ركبتموها فاذكروا اسم الله كما أمركم ثم امتهنوها لأنفسكم فإنما يحمل الله».
وقال علي بن ربيعة: شهدت علي بن أبي طالب ركب دابة يوما فلما وضع رجله في الركاب قال: باسم الله، فلما استوى على الدابة قال الحمد لله، ثم قال: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ} ثم قال: الحمد لله والله أكبر- ثلاثا- اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ثم ضحك فقلت له: ما أضحكك؟ قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صنع كما صنعت، وقال كما قلت، ثم ضحك فقلت له ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: «العبد- أو قال- عجبا لعبد أن يقول اللهم لا إله إلا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت يعلم أنه لا يغفر الذنوب غيره». خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، وأبو عبد الله محمد بن خويز منداد في أحكامه. وذكر الثعلبي نحوه مختصرا عن علي رضي الله عنه، ولفظه عنه: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا وضع رجله في الركاب قال: «باسم الله- فإذا استوى قال- الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون وإذا نزلتم من الفلك والأنعام فقولوا اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين».
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: من ركب ولم يقل {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} قال له الشيطان تغنه، فإن لم يحسن قال له تمنه، ذكره النحاس. ويستعيذ بالله من مقام من يقول لقرنائه: تعالوا نتنزه على الخيل أو في بعض الزوارق، فيركبون حاملين مع أنفسهم أواني الخمر والمعازف، فلا يزالون يستقون حتى تمل طلاهم وهم على ظهور الدواب أو في بطون السفن وهي تجري بهم، لا يذكرون إلا الشيطان، ولا يمتثلون إلا أوامره. الزمخشري: ولقد بلغني أن بعض السلاطين ركب وهو يشرب الخمر من بلد إلى بلد بينهما مسيرة شهر، فلم يصح إلا بعد ما اطمأنت به الدار، فلم يشعر بمسيره ولا أحس به، فكم بين فعل أولئك الراكبين وبين ما أمر الله به في هذه الآية!؟